:: استعراض طائش ::
كانت الساعة الثانية ظهراً وأغسطس يقتحم الأبواب دون استئذان .. فيحدث الاندماج الكوني العظيم .. الأرض كأنها في حرارتها الشمس .. كل شيء على متنها ينذر بذلك .. نتسابق على أقدام المغامرة إلى مسبح أحد الأندية .. قيمة التذاكر حصلنا عليها بطرق غير مشروعة ـ غالباً ـ أحدنا يسطو على محفظة أبية بعد أن غفى الأخير في استراحة القيلولة .. آخر يرسله أهله لشراء بعض الحاجيات فيشتري لهم على الحساب ويقتنص ما تبقى لـ (يوم كريهة وسداد ثغر) .. وهكذا !!
عصى حمقاء كأنها (ماسورة) راقدة قرب شباك التذاكر تتوعد كل من تسوّل له نفسه الاقتحام بغير (أشرة ريال) كما ينطقها الحارس الهندي للمسبح.. لابد من دش مائي قبل النزول إلى المسبح المزدحم بالرؤوس .. لا بأس.. كنّا على ما أذكر أربعة أو خمسة .. الجميع ينظر إلى أجسامنا النحيلة الرشيقة.. الكل ينتظر الحركة البهلوانية التي سيرسمها أولنا على صفحة الماء .. يخرج من كان أسفل .. يمسك عن القفز من كان أعلى .. الجميع ينتظر .. ينظر .. ونحن نتسابق إلى السلم الحديدي الذي ينزل إلى مسبح الأطفال حيث الارتفاع لا يتعدى المتر الواحد !!
أفلتت ابتسامة من وجوه البعض .. ولكن البعض الآخر اعتبر عملية الدخول تواضع لا يملكه إلا الكبار المحترفون .. ولكن الدقائق كالرياح تحتّ كل توقع بأننا محترفون .. ساعة تمر ونحن (نخابط) في جهة الأطفال .. أفلتت الابتسامة من وجوه البعض الآخر .. وعرفوا إن ما عندك (أحد) .. كما قرأنا مشاعر الغضب والاستهزاء في أعين السبّاحين القابعين خلف القضبان الحديدية المخصصة لكل من لا يملك (أشرة ريال) تؤهله للسباحة !!
كان السبّاحون يمارسون هواية استعراضية تتلخص في قذف مفتاح أو مسمار حديدي يتبعه تحدي (من يخرجه بأسرع وقت؟) .. يغمض السبّاح عينيه .. يقذف آخر المفتاح الحديدي داخل المسبح .. ثم يبدأ التوقيت .. فينطلق كأنه سلمون جائع .. وما هي إلا دقيقة إلا شيئا من الثوان .. حتى يخرج بالمفتاح .. والثاني وهكذا !!
يبدو أن هذه اللعبة فاتنة جداً .. حيث أغرت كل المزروعين في المسبح .. وما هالنا إلا وأخي .. يقف على حافة المسبح .. وكأنه بدأ يستعير خيال إدريس .. ينظر إلى الماء قائلا : (أيها الماء ما عاد يخيفني بللك.. الدنيا غريقة يا بحر .. فهل أنت أغرق ؟ أنا الأغرق .. أنا الإنسان يا بحر .. أنا البحر الأكبر .. أنا بحرك ) .. ثم طلب من أحد من لا نعرفهم أن يقذف (المفتاح) ويفتح التوقيت ليحسب له عدد الثوان التي يسجلها قبل أن يخرج قابضاً على المفتاح .. طبعا حبس الذهول أنفاسنا وحنّط أجفاننا .. ونحن ننظر إليه بدهشة .. ولا نجرؤ حتى على النظر إلى الجانب العميق من الماء المطموس بالسواد الأزرق .. دار في أذهاننا : من ورانا يا (عليوي) ؟ .. من ورانا ؟ .. لا ورامي النظارات ؟!
قذف ذاك المفتاح .. وكأن الطيش استحال إلى يد وحافة المسبح إلى وتر والمسبح إلى قوس كبير.. فينطلق صاحبنا من بينهما كأنه سهم ملتهب بالمغامرة.. انتظر الجميع وما هي إلا خمس ثوان فقط .. وقت خرافي طبعاً .. خمس ثوان وصاحبنا (يخابط) على سطح الماء بضجيج وفوضى عارمة .. (يخابط) بكل ما وهبه الله من إرادة للحياة.. وبكل ما تراكم لديه من نفور من الموت .. وكأنه يستدعي للوجود قوته الأقوى .. ينزف كل ما أدخره في جسده من حياة .. لمواجهة الموت .. الماء .. الذي استحال إلى تمرد عات ٍ !!
النجدة صرخ.. هكذا .. وكأن كل خلية في جسده قد استحالت لساناً ناطقاً يصرخ .. ينادي .. يستنجد بكل شيء ..يضرب بكل ما أوتي من يد الماء فيطفو إلى أعلى .. والماء يجذب بكل ما أوتي من يد فيغطس إلى أسفل .. يطفو مدفوعاً بكل ما أوتي من حب للحياة إلى السطح .. ويغطس مجذوباً بكل ما أوتي الماء من موت إلى القاع.. إنه صورة من صور الصراع الأزلي بين الحياة والموت .. بين الدنيا ويوم القيامة .. قيامته وحده !!
كأن جميع الأرواح قد اندجمت في تلك الروح المستنجدة .. يتدخل الجميع .. فينقذون الحياة من الموت .. الدنيا من الآخرة .. وينصرون البقاء على الزوال ..
خرجنا مبللون بالذعر .. نجرجر أذيال الفشيلة ولا فخر!!
مواقع النشر (المفضلة)